يتصاعد النقاش داخل الأوساط الفلسطينية والعربية والدولية حول مصير مشروع "الإصلاح الفلسطيني"، بعد عقود من محاولات متكررة لم تترك سوى آثار جزئية. التحولات الأخيرة في الإقليم، ومعها محاولات بعث مؤسسات منظمة التحرير وإصلاح السلطة، أعادت طرح السؤال الأساسي: هل يكفي الإصلاح الإداري والتكنوقراطي، أم أن المطلوب إحياء شامل للحياة السياسية الفلسطينية؟
بدأت فكرة الإصلاح في الأساس كحاجة داخلية في تسعينيات القرن الماضي، بعدما ظهرت ملامح الفساد والسلطوية داخل مؤسسات السلطة الفلسطينية الناشئة. مع مرور الوقت، تدخل المانحون والأطراف الدولية، لتتحول الكلمة إلى أجندة مرتبطة بالمساعدات الخارجية أكثر من ارتباطها بالمجتمع الفلسطيني.
في مطلع الألفية، بدت لحظة الإصلاح واعدة: تشريعات دستورية جديدة، انتخابات برلمانية، تعزيز دور المجلس التشريعي، استحداث منصب رئيس وزراء، وإجراءات لمكافحة الفساد. لكن هذه اللحظة انهارت بعد انتخابات 2006، حين فازت حركة حماس بأغلبية المقاعد، وهو ما لم يرق للداعمين الدوليين. هنا جرى تعطيل المسار الديمقراطي، وبدأ التراجع عن الاندفاعة الإصلاحية.
منذ الانقسام الداخلي في 2007، تحولت كلمة "إصلاح" إلى شعار فضفاض، تُستخدم إمّا لتبرير دعم الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية ضمن ترتيبات التنسيق الأمني مع إسرائيل، أو كأداة ضغط من المانحين على القيادة الفلسطينية في ملفات المناهج التعليمية أو دعم الأسرى. النتيجة أن الإصلاح فقد معناه الأصلي وصار جزءًا من لعبة سياسية خارجية أكثر من كونه مطلبًا شعبيًا.
تجربة رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض بين 2007 و2013 شكلت محطة خاصة، إذ حاول إطلاق مشروع إصلاح تكنوقراطي يركز على الشفافية المالية والإدارة الحديثة وبناء مؤسسات أكثر كفاءة. غير أن التجربة بدت معزولة سياسيًا، إذ افتقدت قاعدة شعبية، وظهرت كما لو أنها "محافظة دولية" في رام الله تخدم المانحين أكثر مما تخدم المجتمع الفلسطيني، لتتراجع مع غياب الدعم السياسي الداخلي.
اليوم، يواجه الفلسطينيون مشهدًا مختلفًا لكنه أكثر تعقيدًا: السلطة الفلسطينية تعاني أزمة شرعية عميقة، الفجوة بين القيادة والشعب اتسعت، والانقسام بين الضفة وغزة صار واقعًا مؤسسيًا. في هذا السياق، يرى باحثو معهد كارنيجي أن مصطلح الإصلاح لم يعد كافيًا، وأن المطلوب هو إحياء السياسة الفلسطينية من جديد، بما يعني إعادة فتح قنوات المشاركة الشعبية، وتجديد النخب، وتفعيل المؤسسات التمثيلية.
المؤشرات الأخيرة تظهر أن هناك محاولات متباينة في هذا الاتجاه. على المستوى الدولي، صدر في يوليو 2025 "إعلان نيويورك" الذي دعا إلى إصلاحات في السلطة وإعادة تفعيل مؤسسات منظمة التحرير، باعتبارها الممثل الشرعي الجامع للفلسطينيين. وعلى المستوى المحلي، عقد "المؤتمر الوطني لفلسطين" في محاولة لرسم أجندة سياسية شاملة تتضمن إصلاح القضاء وإعادة إحياء المجلس التشريعي.
لكن العقبات أمام هذه المساعي لا تزال كبيرة. أولها أن القيادة الفلسطينية الحالية تعاني من ضعف شديد وانفصال عن القاعدة الشعبية، ما يجعل قدرتها على قيادة مشروع إحياء سياسي محدودة. ثانيها أن المجتمع الدولي لا يتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها أولوية، بل يربط دعمه بملفات أمنية واقتصادية تخدم استقرار إسرائيل. ثالثها أن الجيل الجديد من الفلسطينيين يعيش حالة إحباط واغتراب سياسي، بعدما فقد الثقة في جدوى الانتخابات أو الإصلاحات الشكلية.
رغم ذلك، يشير التقرير إلى أن هناك فرصة لإعادة بعث الحياة السياسية إذا جرى ربط الإصلاح الإداري بمشروع وطني أشمل، يضمن مشاركة حقيقية ويعيد الثقة بين القيادة والشعب. من دون هذه القفزة، ستبقى كلمة "إصلاح" مجرد غطاء لتجميل مؤسسات فقدت فعاليتها.
ويخلص التحليل إلى أن إحياء السياسة الفلسطينية ليس مهمة إصلاحية محدودة، بل مشروع جيل كامل يحتاج إلى توافق داخلي، وانفتاح على مشاركة الشتات، وتوازن في العلاقة مع المانحين بحيث لا تتحول أجنداتهم إلى بديل عن الإرادة الوطنية.
هذا التقرير صدر عن مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي ويعكس خلاصات دراسة معمقة لمسار الإصلاح الفلسطيني والتحديات المرتبطة به.
https://carnegieendowment.org/research/2025/09/palestinian-politics-reform-elections-international-support?lang=en